حكمة أونلاين
سيكولوجية المال


المال وعيٌ ورسالة: بين سنّة الإنفاق ووعد الفقر
لطالما تأملت في طبيعة المال، وكيف يسير بين الناس كأن له وعياً يوجهه، ورسالة ينشد تحقيقها. المال، في نظري، ليس مجرد وسيلة تبادل أو معيار للقيمة، بل هو مخلوق بقانون إلهي دقيق، وسُنّة ربانية تُفعّل عند التزام الإنسان بشروطها. وإن من أعجب ما في المال أنه لا يستقر إلا عند من يدرك رسالته، ويحقق غايته في الإنفاق والتداول، لا عند من يكدّسه أو يحتكره بدافع الخوف.
حين نتأمل في سلوك الأغنياء الذين يزدادون غنىً، نجد قاسماً مشتركاً بينهم: أنهم يُنفقون. سواء أنفقوا في الاستثمار أو الصدقة أو حتى المتعة، فإنهم يفعّلون قانون التدفق. المال يحب أن يتحرك، أن يُستثمر، أن يُبذل، أن يُصرف. ومن يحقق له هذه الغاية، فإن المال يعود إليه ويكثر بين يديه. أما من يظن أن الفقر يُدفع بالاكتناز والتردد والخوف من النفاد، فإنه في الواقع يعيق المال عن تحقيق رسالته، فيفرّ منه كما تفر الحياة من الجماد.
وقد جاء هذا المعنى واضحًا في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، تحث على الإنفاق، لا كحالة فردية من الكرم، بل كمنهج رباني لتحقيق الغنى. يقول الله تعالى: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين" [سبأ: 39] فالله سبحانه يَعِد بالخُلف، أي التعويض، مقابل أي إنفاق يُفعل بنيّة طيبة، وكأن هذا القانون الإلهي يقول: "أنفق، أفتح لك أبوابًا ما كنت تدري بوجودها".
والأعجب من ذلك، أن القرآن لم يجعل الإنفاق خاصًا بالأغنياء فقط، بل حتى من ضُيّق عليه رزقه، طُلِب منه أن يُنفق بما يستطيع، لأن في ذلك تفعيلًا لقانون الغاية. يقول تعالى: "لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يُكلف الله نفساً إلا ما آتاها" [الطلاق: 7] فحتى من يعيش في ضيق، حين ينفق - ولو بالقليل - فإنه يُحيي هذا الوعي في داخله، ويخاطب بذلك قانون المال الكوني، فيأتيه الرزق من حيث لا يحتسب.
لكن في المقابل، يُلقي الشيطان في قلب الإنسان وعدًا كاذبًا، لا يقل خطرًا عن الشحّ، وهو وعد الفقر. يقول الله تعالى: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرةً منه وفضلاً" [البقرة: 268] إنه وعد الخوف من المستقبل، من النفاد، من الحاجة، والذي يجعل الإنسان يحجم عن الإنفاق، فيغلق بذلك دائرة التدفق، ويعيش في قلق دائم. الشيطان لا يعد بالفقر كواقع، بل يعد به كاحتمال، لكنه يزرعه في قلب الإنسان حتى يشلّه عن تفعيل الشروط الربانية للرزق.
وهكذا نفهم أن المال لا يعرف الانتماءات، ولا يميز بين مؤمن وكافر، رجل أو امرأة، عربي أو أعجمي، بل ينجذب لمن يحقق له رسالته: التداول، الإنفاق، النفع العام. إنه وعي يبحث عمن يُحييه ويُحرّكه، ولا يقيم وزناً لمن يظن أن امتلاكه يكفي لحل مشكلاته وهو عاجز عن تحقيق شروطه.
إن الفقر الحقيقي ليس قلة المال، بل قلة الفهم، غياب الوعي برسالة المال. والثراء الحقيقي ليس كثرة الأرقام، بل الاندماج مع قانون الإنفاق والنية الطيبة والبذل في ما ينفع الناس. لذلك، فإن الإنسان إذا أراد أن يغير وضعه المالي، فعليه أولاً أن يغير وعيه، أن يفهم أن المال ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لغايات أكبر: إعمار الأرض، نفع الخلق، تحقيق الاستخلاف.
ومن فهم هذا، وجعل ماله طريقاً للنفع، فإن المال نفسه سيأتيه طوعًا، ويكثر بين يديه، لأنه أدرك سره، وحقق غايته.