كينونة النفس البشرية

5/13/20251 دقيقة قراءة

النفس: جوهر الكينونة البشرية بين الوعي، الفطرة، والتحكم الذاتي

إن النفس هي كينونة سابقة على الذات، وهي التي تحمل وعياً فطرياً وشيفرة خاصة بها تعرف بها القالب الذي سكنت فيه، ألا وهو الجسد. يتجلى هذا الفهم بوضوح في أطوار الخلق، حيث يكون الجنين مجرد قالب لا حياة فيه حتى يُصبح مهيّأً لاستقبال النفس، فتدب فيه الحياة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المفهوم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]. ففي هذه الآية ذُكرت النفس مجردة من الذات، ما يدل على أنها سابقة لها. فقد مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته كلها، كل نفس بمفردها، في مشهد واحد خالد خارج الزمان والمكان البشريين، لتشهد وتُقر بربوبية خالقها، ثم تنتظر قالبها الجسدي الذي ستظهر من خلاله في العالم المادي، وتدخل بذلك حيّز التجربة البشرية التي يُصبح فيها الإنسان كياناً مركباً من نفس وجسد، يمتلك وعياً وإرادة حرة في تقرير مصيره.

كما أن النفس تُبعث يوم القيامة لتتطابق مع ذاتها الأرضية، في مشهد فريد أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: 7]، أي عادت إلى قوالبها التي كانت تسكنها في الدنيا.

النفس مخلوق لا تحكمه قوانين المادة، ولهذا لا يمكن إدراكها بشكل ملموس، ولا تخضع للقياس الحسي. لكنها تحتاج إلى تغذية، كما تحتاج الذات إلى غذاء مادي. هذه الحاجة دفعت الإنسان منذ القدم إلى محاولة إشباعها عبر معتقدات وأساطير وطقوس، لملء الفراغ الداخلي الذي لا يملؤه سوى التوجيه الصحيح نحو الخالق، فالنفس مفطورة على العبادة، والرسل بُعثوا لتوجيه هذه الفطرة نحو خالقها.

يتجلى ذلك في أهمية العبادات، وعلى رأسها الصلاة، التي تُعَد وسيلة لتزكية النفس. فالعبادة ليست تكليفاً بقدر ما هي حاجة نفسية وروحية للاتصال بالمصدر الأعلى، وفي هذا تحقق السكينة الداخلية.

وللنفس مراتب تتباين بحسب استجابة الإنسان لها:

النفس الأمّارة بالسوء: وهي التي تدفع صاحبها إلى اتباع الشهوات والانحراف، وهي التي ورد ذكرها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف: 53]. وتُقابل في علم النفس الحديث بما يعرف بـالاندفاعية العاطفية (Emotional Impulsivity)، حيث يكون الفرد أسيرًا لمشاعره دون وعيٍ عقلاني.

النفس اللوامة: وهي التي تندم وتراجع أفعالها وتؤنّب صاحبها على التقصير، كما قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 2]. وهي قريبة من مفهوم الضمير الحي أو الرقابة الذاتية.

النفس المطمئنة: وهي النفس التي بلغت أعلى درجات التزكية، فأصبحت ساكنة، متصالحة، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 27]. ويقابلها في علم النفس مفهوم الاستقرار العاطفي (Emotional Stability).

هذه المراتب لا تُكتسب تلقائيًا، بل تتطلب مجاهدة، وضبطًا ذاتيًا، وتزكية مستمرة للنفس. وهنا يتجلى دور الإرادة الحرة التي يمتلكها الإنسان.

لكن ما إن تدخل النفس هذا القالب المادي، حتى تبدأ في التفاعل مع متغيرات البيئة، ومع تجارب الألم واللذة، فينشأ عن ذلك تشكُّل أمراض خفية تتراكب على فطرتها الأولى، كالكبر، والحسد، والأنانية، والقلق، والشعور بالنقص، والحقد، والاغتراب. وكلما طال إهمال النفس، تضخّمت هذه الأمراض وتشعّبت، حتى تغدو النفس سجينةً في جسدها، غارقة في ظلماتٍ من المعاناة لا يُدرك صاحبها مصدرها الحقيقي، فيسعى لعلاجها بمسكنات مادية، بينما أصل الداء في أعماق النفس.

وهذه الآفات لا تُعالج إلا بالعودة إلى مصدر النور: التزكية، التفكر، والخلوة، والصدق مع الذات، وذكر الله، والعبادة الصادقة، والاتصال الحقيقي بالرحمن. فهذه كلها بمثابة البلسم الذي يضمد جراح النفس، ويعيدها إلى توازنها، لتستعيد قدرتها على السير في طريق الطمأنينة. وما هذا التأمل إلا بداية لمسار طويل في فهم كُنه النفس، إذ لا يمكن اختزال حقيقتها في كلمات، بل هي بحرٌ عميق من الأسرار، لا يُغاص فيه إلا بأدواتٍ من صدق، وبصيرة، وعزيمة.

والقرآن الكريم يؤكد أن التزكية ليست مجرد أمر أخلاقي، بل مشروع وجودي، كما قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10].

وفي ختام هذا التأمل، ينبغي التنبيه إلى أن القلب أو الفؤاد هو المسؤول عن اتخاذ القرارات المصيرية في مسار النفس، وهو مركز الإرادة الحرة والتمييز بين الخير والشر. وقد دلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 89]، أي أن سلامة النفس لا تتحقق إلا بسلامة القلب، الذي يخضعها لقوانينه ويضبط اندفاعاتها، ويُفعّل قدرتها على الاختيار الأخلاقي.

وهكذا، يكون الإنسان في رحلة مستمرة لتطهير نفسه، لا عبر كبح غرائزها فقط، بل عبر توجيهها نحو ما يسمو بها، ويحقق الغاية التي خُلقت من أجلها: الوعي، والهداية، والاستقامة.