حقيقة الروح

blue and white smoke illustration
blue and white smoke illustration

هل "الروح" هي ما يجعل الإنسان حيًا؟ قراءة تأملية في ضوء النص القرآني منذ القدم، ارتبطت الحياة البشرية بمفاهيم الروح والنفس، واختلطت هذه المفاهيم لدى الكثيرين، حتى بات يُعتقد أن "الروح" هي التي تسري في الكائن الحي لتبعث فيه الحياة. غير أن التدبر الدقيق في آيات القرآن الكريم يكشف لنا تصورًا مختلفًا وعميقًا، يُبرز أن "النفس" هي الكيان الذي يقوم عليه وجود الكائن الحي، لا "الروح".

النفس: الكيان الذي تُنسب إليه الحياة والموت في أكثر من موضع، نسب القرآن الكريم الحياة والموت إلى "النفس" وليس إلى "الروح". يقول تعالى:

"اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى" (الزمر: 42)

هذه الآية العظيمة تشير بوضوح إلى أن ما يُتوفى عند الموت أو النوم هو "النفس"، وليست "الروح". ويبدو أن النفس مرتبطة بالوعي والإدراك والوجود الفعلي للكائن، إذ تُمسك التي توفيت فعلاً، وتُرسل الأخرى إن لم يحن أجلها.

كذلك جاء في قوله تعالى:

"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ" (آل عمران: 185)

"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۖ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ" (فاطر: 18)

الآيات تشير إلى النفس باعتبارها هي الكيان الذي يحمل التبعة، ويتذوق الموت، ويتلقى الحساب، وكل هذا يدل على أن النفس هي المحور الأساسي في كيان الإنسان الحي.

الروح: تجلٍّ للأمر الإلهي وليس وسيلة الحياة البيولوجية على النقيض، عندما يذكر القرآن "الروح"، فإنه يربطها دائمًا بـالأمر الإلهي، أو بالتدخل الرباني في مرحلة خلق جديدة أو نزول أمر إلهي، لا بوصفها وسيلة لإبقاء الجسد حيًا.

يقول تعالى:

"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي" (الإسراء: 85)

وهذا التوصيف يضع "الروح" في مرتبة غير محسوسة، متعلقة بأمر الله، لا بعملية الأحياء والموت. ومما يعزز هذا المعنى، قوله تعالى:

"تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ" (القدر: 4)

فـ"الروح" هنا مرافقة لنزول الأمر الإلهي، كأنها رسول من عالم الغيب يُجسد لحظة فارقة تتضمن قانونًا إلهيًا جديدًا.

ومن الآيات ذات الدلالة العميقة أيضًا قوله تعالى في خلق عيسى عليه السلام:

"إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ" (النساء: 171)

فقد ارتبطت الروح في هذا الموضع بحدث خلق استثنائي، بأمر من الله، لا بوصفها جزءًا يتكرر في كل كائن حي. وكذلك في قوله:

"فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا" (التحريم: 12)

كل هذه السياقات توضح أن الروح في القرآن ليست الطاقة التي تسري في المخلوق لتجعله حيًا، بل هي أمر إلهي يتنزل في ظروف خاصة واستثنائية، تحمل دلالة على الخلق الإعجازي أو نزول الوحي أو الأمر الرباني.

خلاصة تأملية النفس هي التي تتوفى، وتحيا، وتُحاسب، وتتحمل المسؤولية، وهي التي بها يكون الكائن حيًا. أما الروح، فهي "من أمر ربي"، تبرز فقط في سياقات مرتبطة بالله مباشرة، وتُشير إلى خلق جديد أو إرسال أمر إلهي.

هذا الفهم القرآني يغير نظرتنا المعتادة: نحن لا نحيا بالروح كما نعتقد، بل نحيا بالنفس، والروح شيء آخر، مرتبط بالغيب والإرادة الإلهية المطلقة